حسين مجدوبي، كاتب مغربي
أصبحت المؤسسة العسكرية لاعبا جديدا وبارزا في الحياة السياسية في العالم العربي، بعد إنهائها للديكتاتورية في الجزائر والسودان، ومرشحة للعب الدور نفسه في دول عربية أخرى مستقبلا، بل قد تتحول إلى ضمانة للديمقراطية، وتصحيح انحرافات سلطة الرؤساء والملوك، وعامل مهما للجم دور جهاز المخابرات الذي يعتبر، تقليديا، أكبر عنصر فساد في يد الطغاة في العالم العربي.
ويسجل العالم العربي غيابا لما يعرف بسوسيولوجية الجيوش العربية، ودراسة المراحل التي مرت فيها منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وفي المقابل يستمر التعاطي معها كمكون جامد لا يتأثر بالتطورات الجارية في البلاد، ومما يزيد من هذه الرؤية هو اعتبار مؤسسة الجيش طابو سياسيا وأمنيا، يجب عدم الاقتراب منه. ويساهم الكثير من الدراسات الغربية في تعزيز هذه الرؤية وتبنيها من طرف أغلب الباحثين العرب شكلا ومضمونا.
والواقع أن المؤسسة العسكرية العربية تسجل تغييرا في دورها سيتعاظم مع الوقت، شأنها شأن التغيرات التي شهدتها الجيوش الأخرى.
في هذا الصدد، كانت المؤسسة العسكرية مرادفا للانقلابات في العالم العربي منذ ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 ثم محاولات تلتها في سوريا والسودان وليبيا، وبطريقة مختلفة في الجزائر، ثم في موريتانيا، علاوة على محاولات فاشلة في المغرب سنتي 1971 و1972. والبحث عن إيمان المؤسسة العسكرية بإصلاح الأوضاع عن طريق الانقلاب ضد الحاكم الفاسد، ولصالح الشعب بدأ مع الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، الذي ترأس المجلس الانتقالي العسكري سنة 1985 في السودان، وسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة سنة 1986.
لكن هذه المبادرة التاريخية لم يكن لها تأثير في العالم العربي، نتيجة الحرب الباردة من جهة، وبسبب غياب نهضة سياسية وقتها للشعوب العربية المطالبة بالديمقراطية من جهة أخرى، عكس ما يجري الآن. ويضاف إلى ذلك قيام عمر البشير بتنفيذ انقلاب عسكري أعاد ساعة السودان الى الوراء. وكان يجب انتظار عشرين سنة لنشهد مبادرة مماثلة للجنرال سوار الذهب، وهي قيام المؤسسة العسكرية الموريتانية سنة 2005 بانقلاب عسكري ضد الديكتاتور معاوية ولد الطايع. وسلّم الجيش السلطة الى رئيس مدني منتخب سنة 2007 وهو محمد ولد الشيخ عبد الله، لكن ارتكاب هذا الأخير لأخطاء قاتلة، دفع الجيش الى الانقلاب بزعامة محمد ولد عبد العزيز، ولم يسقط الجنرال في ديكتاتورية عسكرية تقليدية، بل راهن كثيرا على مظاهر ديمقراطية متوسطة، ومنها قراره الانسحاب من السلطة.
ولا يمكن فهم اندلاع الربيع العربي، من دون التوقف عند لحظة تاريخية ومفصلية، لكنها لا تحظى بانتباه الباحثين، وتتجلى في رفض الجيش التونسي المشاركة في قمع انتفاضة الشعب التونسي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2010 وبداية 2011. ويوم 11 يناير/كانون الثاني 2011، رفض قائد الجيش الجنرال رشيد عمار أوامر الرئيس زين العابدين بن علي بنزول الجيش الى الشارع لمواجهة المتظاهرين، وكان ذلك الرفض هو سر نجاح الثورة التونسية وانهيار نظام بن علي وفراره لاحقا.
لقد تبنى الجيش المصري في البدء مطالب المحتجين، ورفض النزول إلى الشارع لقمع المتظاهرين، ما أدى الى سقوط الرئيس حسني مبارك، لكن ضباط هذا الجيش بزعامة عبد الفتاح السيسي، عادوا لتنفيذ انقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي. يجب استحضار أن السيسي رجل مخابرات أكثر منه عسكريا، والمخابرات في العالم العربي هي في الغالب مرادف الفساد والتآمر.
ومع عودة الربيع العربي وانتفاضة الشعوب من أجل الديمقراطية، خاصة خلال إبريل/نيسان الجاري، عاد الجيش إلى خطف الأضواء، فقد أجبر الجيش الرئيس عبد العزبز بوتفليقة على الاستقالة من رئاسة البلاد، كما وضع الجيش في السودان نهاية لديكتاتورية عمر البشير. وهناك رأيان، رأي يطالب بعدم الثقة في الجيش، ورأي يطالب بالثقة في المؤسسة العسكرية.
والواقع أن المؤسسة العسكرية في الجزائر والسودان أبانت عن نضج سياسي بتفاديها الاستفراد النهائي بالسلطة، وكذلك بالرهان على العنف والقمع السياسي، وإقامة حوار مع المحتجين من أجل إرساء نموذج انتقالي. فالجيش الجزائري يبحث عن صيغة توافقية تجعله لا يخرق ما ينص عليه دستور البلاد تفاديا لمغامرات غير محسوبة مستقبلا. ومن جهته، قال الجيش السوداني إنه يقوم بالتغيير لصالح الشعب، ولهذا لم يلجأ إلى القوة نهائيا، بل أقدم على قرارات شجاعة سيحفظها التاريخ له.
والتطورات التي تشهدها المؤسسة العسكرية العربية وترشحها مستقبلا إلى ضمانة للديمقراطية ناتج عن عوامل رئيسية وهي:
*في المقام الأول، الاحتكاك القائم بين أفراد الجيش والمدنيين. في الماضي كان الجنود وعائلاتهم يقطنون في ثكنات عسكرية، أو أحياء عسكرية، لكن خلال العشرين سنة الأخيرة، بدأوا يختلطون بالشعب ويعيشون وسطه، ما جعلهم يتأثرون بمشاكله التي هي مشاكلهم.
*في المقام الثاني، رغم محاولة الأنظمة الديكتاتورية التحكم في وعي الجنود، لم يعد هذا ممكنا، بسبب تطور وسائل التواصل الاجتماعي وانضمام طلبة جامعيين الى المؤسسة العسكرية، عكس ما كان يجري في الماضي من وجود ضباط كبار متعلمين وانتهازيين، ثم جنود صغار وهم الأغلبية بدون تعليم ومفصولين عن العالم الخارجي.
*في المقام الثالث، أدرك الجنود أنهم في خدمة أنظمة ديكتاتورية أكثر بكثير من المهام المنوطة تقليديا بالجيش وهي حماية الوطن وضمان أمن الشعب. ولم يعودوا يقبلون بهذه المهام الدنيئة، حيث أدرك الجنود، خاصة الصغار والضباط المتوسطين، أن عليهم عدم الاستمرار أداة قمع الشعوب.
*في المقام الرابع، لم تعد الأنظمة العربية تعتمد على المؤسسة العسكرية في القمع، بل تعتمد على مختلف أنواع الاستخبارات، هذه الأخيرة المسؤولة عن معظم الجرائم، ولهذا تمت إقالة مسؤولي المخابرات في الجزائر ويطالب السودانيون بمحاكمة مسؤولي هذه الأجهزة.
هذا لا يعني تعميم التطور النوعي في فكر المؤسسة العسكرية على كل الجيوش العربية، بل هناك تفاوت، وإن كان مستقبلا سيغيب هذا التفاوت وستصبح هذه المؤسسات تقوم بدورها، وهي حماية الوطن من الاعتداءات الخارجية، ولجم كل الانحرافات للحكام ومؤسساتهم الاستخباراتية.
في غضون ذلك، وأمام هذا التطور المهم، يبقى الأساسي هو تفكير الناشطين السياسيين والحقوقيين في العالم العربي بضرورة إقامة حوار مع المؤسسة العسكرية لكي تساهم في التغيير السياسي، عبر تذكيرها بدورها الحقيقي المتمثل في حماية الشعوب، وليس خدمة وحماية أنظمة ديكتاتورية فاسدة. إن المؤسسة العسكرية مكونة من أبناء الشعب، ويجب أن تكون في خدمة الشعب، وأن لا تبقى إلى الأبد في خدمة الديكتاتوريين والطغاة.
نقلا عن “القدس العربي”
التعليقات - بعد الجزائر والسودان: ضرورة مخاطبة الجيش :
عذراً التعليقات مغلقة