المواطنة نيوز
بقلم محمد بوفتاس
حين نعود للتأمل في بعض المفاهيم الدينية المتداولة بكثرة في ثقافتنا، تتوقف بنا الذاكرة والعقل عند تصورين يثيران الكثير من التساؤل: عذاب القبر والصراط. لطالما تساءلنا كيف ترسّخت هذه الصور المفزعة في وجدان الناس، وهل مصدرها خالصٌ من القرآن الكريم، أم أنها جاءت إلينا مشوبة بموروثات وأساطير تسربت من حضارات سالفة، فاختلط فيها الغيب بالموروث الثقافي، وأصبح من العسير التمييز بين الوحي وما تراكم حوله من روايات.
عندما نتتبع آيات القرآن الكريم، لا نجد فيه حديثًا صريحًا عن عذاب القبر، ولا ذكرًا لتفاصيل الصراط كما ترد في بعض الأحاديث. النص القرآني يشير إلى الموت باعتباره مرحلة انتقالية، وسكونًا يسبق البعث، دون أن يصف القبر كساحة عذاب أو كمكان محاكمة. أما مشهد الحساب والعقاب، فيرتبط في القرآن بالبعث والنشور، ويوم الفصل العظيم، لا بلحظة الدفن.
ومع ذلك، فإن المخيال الإسلامي امتلأ بتفاصيل دقيقة عن حياة القبر، وعن فتنة منكر ونكير، وضغطة القبر، وأهوال الصراط. وقد ساهمت هذه المرويات في ترسيخ صورة عن الموت تجعله بوابة رعب دائم لا مهرب منه.
لكن عندما نضع هذه الصور جنبًا إلى جنب مع المعتقدات القديمة، ندرك مدى التقاطع والتشابه. ففي كتاب الموتى الفرعوني، الذي كان يوضع مع الجثة لمساعدتها في العالم الآخر، نجد أن الميت يُحاسب أمام الإله “أوزيريس”، ويُوزن قلبه في كفة الميزان مقابل ريشة العدالة. فإذا كان قلبه خفيفًا، نجا، وإن ثقل، ابتلعه وحش العقاب. وهناك طقوس وأسئلة يمر بها الميت قبل الوصول إلى “حقول السلام”، وهي جنة الفراعنة. ألا نجد في هذا المشهد ما يُشبه فكرة الحساب، والوزن، والنعيم أو العذاب بعد الموت مباشرة؟
وفي الحضارة البابلية والآشورية، نجد تصورات عن نزول النفس إلى العالم السفلي، حيث تُعرض على آلهة الموت، ويُبتّ في مصيرها بناءً على أعمالها. ثم هناك الزرادشتية الفارسية، التي تحدثت عن جسر “شينفات”؛ جسر دقيق لا ينجو فوقه إلا الصالحون، أما الطالحون فيسقطون في العذاب. هذا الجسر له كل ملامح “الصراط” الذي نجده في المرويات الإسلامية، حيث يُقال إنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف.
هذه التشابهات تجعلنا نتساءل عن مدى تأثر الثقافة الإسلامية في العصور الأولى بهذه الرؤى الموروثة من حضارات وديانات سابقة، خصوصًا أن بعض الروايات الإسلامية جاءت على ألسنة رواة تأثروا بتلك الثقافات، وأشهرهم كعب الأحبار، الذي كان يهوديًا قبل أن يُسلم، ونقل كثيرًا من روايات أهل الكتاب، ووجدت هذه القصص طريقها إلى كتب التفسير والوعظ.
وقد أشار عدد من المفكرين المسلمين، قديمًا وحديثًا، إلى هذا التأثر. فمثلاً، نجد ابن حزم وابن رشد وغيرهم يرفضون أن تُبنى العقيدة على أخبار آحاد لا ترقى إلى مستوى اليقين، ويعتبرون أن كثيرًا من صور عذاب القبر، أو الصراط التفصيلي، إنما هي تعبيرات رمزية أو إضافات ثقافية لا أصل لها في القرآن.
بل إن القرآن، حين يتحدث عن الموت، يفعل ذلك بلغة فيها وقار وسكينة، لا تهويل ولا مشاهد مفزعة. يجعل من البعث يومًا جامعًا، لا يسبق بعذاب ولا محاكمة فردية في القبر. وحتى عند الحديث عن الحساب والعقاب، يبقى التركيز على عدالة الله ورحمته، وليس على الرعب. فالله في القرآن هو “الرحمن الرحيم”، لا من يُعذب عباده في قبورهم قبل أن يُحاسبهم علانية أمام الناس.
إننا حين نعيد قراءة هذه المرويات ونقارنها بالنص القرآني الصافي، لا نُحاول إنكارها كلها دفعة واحدة، لكننا ندعو إلى قراءة نقدية متأنية. فالإسلام لا يحتاج إلى صور الرعب ليبني علاقة الإنسان بربه. يكفينا أن نعرف أن بعد الموت حسابًا وعدلًا ورحمة، دون أن نملأ المخيلة بصور مفزعة نشأت في سياقات أسطورية أكثر مما ترسّخت في الوحي.
وإذا أردنا أن نحرر إيماننا من الخوف غير المبرر، وأن نعيد للعقيدة الإسلامية صفاءها الأول، فعلينا أن نُميز بين الوحي المنزل والمرويات التي تراكمت من ثقافات متعددة. إن الموت، كما يفهمه القرآن، ليس فزعًا ولا رعبًا، بل بداية عبور نحو الحق، نحو عدالة مطلقة، نحو رحمة لا ظلم فيها.
لذلك، لا بد أن يُبنى الإيمان على الفهم، لا على التلقين؛ على الرجاء، لا على الفزع؛ على المحبة، لا على الرعب من لحظة الدفن. لقد خلطت البشرية بين الغيب والإسقاطات الثقافية، بين الدين والخرافة، بين الرمز والحقيقة. وحان الوقت لنفك هذا الاشتباك، ولنعود إلى النبع الأول، حيث الكلمة الواضحة، والميزان المستقيم، والرحمة التي سبقت الغضب.
بقلم: محمد بوفتاس
باحث مهتم بقضايا الفكر والدين والمجتمع